[center][size=24] [color=red] قتيلة الشنطة والكوشة.. وآخرون - نقلا عن جريدة الراي العام
شوقي بدري *
(1)
اثناء لعبة كونكان بــ (الحريق والحمير والمكاواة) ، سخر حسين ود الحاوي من رفيقه (سيد) بهزيمته، فأخذ (سيد) الورقة ووضعها امام حسين واشار الى (العشرة الصائمة) التي كسبها قائلاً:
ــ وعشّة قتيلة الشنطه دي، الصايمة دي نسيتها؟!
ولأن رفيقنا (سيد) يصغرنا في العمر وهو دنقلاوي من (الحلة الجديدة) في الخرطوم، فقد إستغربت لمعرفته بــ (عشّة ).
هذه الجريمة وقعت في العام 1963م، وربما في شهر مايو، وعائشة هارون كانت بائعة هوى ظريفة وفدت من إحدى دول الجوار ولم تكن متمكنة من اللهجة السودانية وتقول حين تُسأل عن اسمها: (أسة بدلا عن (عشّة)..!
لونها يميل الى الصفار بجمال متوسط الا انها كانت جذابة، جاءت لأم درمان وهي أفقر من فأر الخلوة وبعد فترة لم تطل من الزمن صارت ترتدي أفخر الثياب وتمتلك تلالاً من الذهب وتقول مفتخرة:
ــ (أنا اندي أسرا تياب) ــ اشارة لثيابها العشرة..!
(2)
عشة هارون لم يكن لها اهل في امدرمان، لذا كانت تذهب الى اهلها ومعارفها في (عشش فلاتة) وتمكث عدة ايام.
قلنا ان القتيلة (عشة) لم تكن في مستوى جمال فاتنات امدرمان قديما مثل بت الشيطي أو أسماء الحلبية التي تزوجها البلطجي ود الصدناوي أو (عشة ام رشيرش) التي احترفت الغناء كذلك. وهنالك المغنية فاطمة وام عفاف وبت نور الشام التي جندلت بجمالها الباهر أحد اكبر الزعماء في امدرمان وعزيزة التي بسببها اخذ الشاعر الشهير علقة بالخيزرانة من احد كباتن كرة القدم..!
(3)
الحي الذي سكنت فيه (عشة) ورفيقاتها عرف بــ (فريق جهنم) وهي المنطقة المحصورة بين فريق السوق ومقابر الشهداء ــ الذي صار موقفاً للمواصلات ــ ومستشفى امدرمان الكبير. منزلها كان في الزقاق الثالث المتفرع من شارع نادي الهلال القديم وله بوابة ضخمة من الحديد، تشاركها في المنزل فتيات أخريات، منهن مريم وهي قوية البنية تتعرض للزبائن المشاكسين، وساعدت كثيرا في تحريات البوليس في مقتل رفيقتها (عشة هارون) وتعرفت مع بقية الفتيات في طابور الشخصية على المتهم (صديق)، كما تعرفن على (بكري) صديقه الذي حضر مع المتهم (صديق) في احدى المرات يقود سيارة تاكسي.
(4)
عندما انتقلت اسرة الاستاذ (صديق) الى منزله الجديد في الثورة، طلبت حماته من الخادم ان يحفر لها حفرة دخان، وأثناء إنهماكه في الحفر، اصطدمت (العتلة) بشنطة حديدية كبيرة، فظنت حماته بأنهم عثروا على كنز. وعندما اخبرت الحماة (صديق) بأمر الشنطة، لم يبد أي نوع من الفضول، بل طالب الاتصال بالبوليس مباشرة، وهذا ما جعل البوليس يوجه اليه تهمة القتل أو التستر على القتل.
(5)
المحكمه الكبرى التي تشكلت، كانت بزعامة مولانا هاشم محمد ابو القاسم وعضوية محمد صالح عبداللطيف وقيع الله وثالث أظن انه الكتيابي. والقضية استمرت مدة طويلة وتشعبت حتى بلغت 2000 صفحة وقامت المحكمة بزيارة منزل المتهم (صديق) ومنزل قتيلة الشنطة (عشة هارون) قبل أن تصدر حكمها على (صديق) بست سنوات سجناً.
كان القاضي محمد صالح عبداللطيف يناقش معي القضية لانه يعلم ان لي صلات بـ (عالم امدرمان السفلي) وأصدقاء وسط الجرسونات وعمال المطاعم وباعة السوق.
القاضي كان ضد الادانة لان سبب الوفاة لم يكن معروفا والجثة متحللة وهنالك امكانية ان لا تكون الجثة لــ (عشة)، وربما لقناعته تلك، وجه في المحكمة سؤالاً للخبير الذي كشف على الجثة، ما اذا كانت الرائحة من النوع النفاذ الذي يؤثر على الرؤية مثل البصل مثلا. كما كان يميل للتحقيق مع (بكري) الذي لم توجه له اية تهمة، خاصة ان احدى الفتيات ذكرت انها لم تكن متأكدة من (صديق) في زيارته الاخيرة لانه كان يغطي فمه وانفه بمنديل يحمله في يده.
بكري كان مصاباً بقطع في يده المربوطة بشريط أو شاش وهو ورفيقه (صديق) كانا في حجم متقارب. وبكري عرف في العالم السفلي لامدرمان بأنه(شفت) و يقال انه عاش فترة خارج السودان زعم وقتها انه كان في امريكا.
(6)
القاضي محمد صالح ــ زوج اختي ــ الذي شاركني السكن وقتها كان غير راضٍ عن سير القضية، الا انه لم يكن رئيس المحكمة، والمنطق يقول ان القتيله لم تقتل في منزل (صديق) وإلا لما إحتاج الامر لشنطة ضخمة لدفنها، بل الشنطة استعملت لنقل الجثة.
(7)
ما كنت اسمعه انا ويتردد في امدرمان ولم يذكر في المحاكمة التي كنت احضرها في بعض الاحيان، ان (صديق) اتهم في الجزيرة من قبل بقتل زوج امرأة كانت تربطه بها علاقة، والزوج القتيل وجدت جثته مقطعة داخل جوال، ووجه الاتهام كذلك لصديقه (عبد الله) ولان شقيق عبدالله كان نافذاً وقتها، فقد تفرغ لقضية شقيقه وحكم على (صديق) و(عبدالله) بالبراءة.
(8)
أيام قضية الشنطة، كان أبو رنات رئيسا للقضاء وابدى كثيرا من الاهتمام بها و قام بدراسة الألفي صفحة دراسة دقيقة، ولاحقاً برأت محكمة الاستئناف المتهم (صديق) من التهمة الموجهة إليه.
المحامي في تلك القضية، هو عبدالحليم الطاهر الذي كان قاضيا قبلها، وهو من اولاد امدرمان المدردحين وله صلات واسعة وأنس في مجالس امدرمان. مكتبه يواجه الركن الشمالي الغربي لحوش الخليفة في شارع الموردة.
لقد كان لنا قضاء رائع وقتها ولايزال، ولم يكن في الامكان تعذيب المتهمين وانتزاع الاعترافات منهم. وابو رنات كان من اعظم رجال القانون في العالم، وقد هاجمه الوسيلة، احد قيادات الحزب الشيوعي ــ رحمة الله عليه ــ في احد مجالس امدرمان ولم يغضب ابو رنات. وعندما اشعل سيجارته بكبريت الوردة وهو صناعة سودانية رديئة، طار رأس العود فقال له الوسيلة هازئا:
ــ يا مولانا حاسب من اللعب بالنار.
فضحك مولانا ابو رنات.
(9)
من المؤلم ان قاتل (عشة) لم يُعرف، وكذلك لم يتعرف أحد على من نكل بقتيلة (الكوشة) وهي أيضاً بائعة هوى، على خلاف (عشة هارون) كانت من وسط السودان ووجدت جثتها وسط نفايات امدرمان التي كانت تحرق في كوشة الجبل في المنطقه التي تقع جنوب نادي المريخ واكتشف الجثة احد عمال الصحة التي تتبع لبلدية امدرمان.
لم اعرف القتيلة شخصياً من قبل ولكن بالاطلاع